يلاحظ علماء التربية والباحثون المعاصرون أن مفهوم التربية في صدر الإسلام، كان يتطوّر بتطوّر ظروف المجتمع. فقد حث عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما على تدبر القرآن الكريم ومنع كتابة الحديث، لئلا يختلط القرآن بالحديث.
وفي زمن معاوية بن أبي سفيان بدأ الاهتمام باللغة، بسبب ظهور اللحن بين الموالي وخوف المسلمين من امتداد هذا اللحن إلى القرآن الكريم. وكتب عمر بن عبدالعزيز إلى كبار العلماء بنشر الحديث وتعليمه، أما مناهج كتاتيب الصبيان، فقد اشتملت على القراءة والحساب والكتابة.
وكانت أساليب التعليم المرافقة لتطبيق هذا المنهج، تؤكد استمرارية التعليم في المجتمعات الإسلامية التي تتأسس على القاعدة التالية: “الناس عالم ومتعلم، وما بين ذلك همج لا خير فيه”. وكان استمرار طلب العلم، صفة ملازمة لكل من انتسب لميدان العلم.
كذلك كانت أساليب التعليم، تعتمد التشويق، وقد ذكر أن الإمام الزهري (ت124ه) كان يحدث ساعة ثم يأمر الطلاب بتطارح الشعر والأحاديث الأخرى معلقاً: “إن الأذن مجاجة، وإن للنفس ضمضة”. وقد وضع فيما بعد بداية القصائد والمدائح النبوية، التي أصبحت جزءاً من الأسلوب التعليمي عند الصوفية.
وهناك التدرج في التعليم الذي يؤكد حفظ القرآن أوّلاً، فإذا اطمأن المتعلم لحفظه، انتقل إلى دراسة الحديث، كذلك هناك التعزيز، ومراعاة الاستعدادات والسن والفروق الفردية. كما قالوا بضرورة الصحبة التي تنشأ بين الطالب والمعلم، وعدم الاقتصار على دراسة الكتب.
وكان المعلمون في القرن الأوّل يتبعون ثلاث طرق في التعليم هي الرواية والمذاكرة والسؤال. فالرواية تشبه المحاضرة اليوم. إذ يقوم العالم بالإملاء على طلابه. أما الطلاب فكانوا يدونون هذه الأمالي في كراريسهم. وقد شملت هذه الطريقة بالإضافة إلى علم الحديث، علم الشعر أيضاً.
أما المذاكرة، فهي أن يذكر أحد التلاميذ عن شيخه. وهي طريقة ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما وهي تشبه صفة المعيد. في حين اعتمد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أسلوب السؤال. فكان يقول: اسألوا يرحمكم الله، فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل والمعلم والمستمع والمحب لهم. وقد ارتبطت الرواية والمذاكرة بالحفظ والاستظهار، أما طريقة السؤال، فقد ارتبطت بالفهم والتأويل وحسن الابتكار.
إن العملية التعليمية في صدر الإسلام، التي قامت على المبادئ التي ذكرناها، إنما اتصلت بأسلوب السماع، لأن العالم كان يلقي علومه، بينما يسمعها الطلبة ويحفظونها. كذلك قامت على الدعوة للانفتاح وتقبل الاختلاف في الآراء. إذ غاية المؤمن هي العلم، فكلما أصاب من العلم شيئاً حواه وطلب غيره. وقد مهّد ذلك الطريق للوقوف على تراث الأمم الأخرى: العلمي والأخلاقي والديني. وكانوا يجدون في ذلك فائدة عظيمة يجنيها المتعلم لنفسه.
كذلك اتصلت عملية التعليم بالحديث عن آداب العالم وآداب المتعلم والتي تتمثل في الحلم والاتصاف بالأخلاق الحسنة والتواضع وعدم ادعاء المعرفة لدى العالم، كما تتمثل باحترام المعلم من قبل المتعلم، مما يمنحه فرصة واسعة للتعلم. وتتمثل أيضاً بعدم الخجل وتأكيد الجرأة الأدبية والسؤال عن كل ما لا يعرف.
في أواسط القرن الثاني الهجري، ظهرت عوامل عديدة أدّت إلى تطور جديد في مفهوم التربية الإسلامية، وذلك من خلال ظهور المدارس الفقهية واللغوية، أو من خلال نشاطات الفرق الإسلاميّة، أو من خلال التفاعل مع ثقافات البلاد التي شملها الفتح الإسلامي، ناهيك عن الحاجات الجديدة التي برزت في تلك البلاد، أو في كل قطر من الأقطار. إذ لكل منها حاجاته الخاصة على مستوى التربية الإسلامية والمشكلات التي ينبغي أن يتصدّى العلماء لها.
ويبدو أن أول مظهر للتطور التربوي في العصر العباسي، كان قد انعكس على مفهوم التعليم ومنهاجه. ذلك لأن مفهوم التعليم ارتبط بطبيعة العصر وظروف المجتمع. وقد مثل هذا الاتجاه أئمة المذاهب، فأبوحنيفة مثلاً دعا إلى تنظيم منهاج يجعل المتعلم يعيش عصره فكراً وثقافة، ويسلحه بما يجابه به التحديات التي تواجهه. ولم يقف أبو حنيفة عند التقرير النظري، وإنما عمل على ترسيخ مفاهيمه في نفوس تلاميذه الذين تعرضوا للموقف نفسه. وبرأيه أن على المتعلم أن يطّلع على تيارات عصره، ومعرفة الخاطئ من الصحيح، حتى يتخلص من الجهل وحتى لا تنزل به شبهة مما ينزل بغيره، وألا يقتصر على تعلم ما يعتقد المتعلم أو المعلم أنه الحق، لأن ذلك يجعل العلم شبيهاً بالجهل. فالحق لا يعرف إلاّ بمعرفة الباطل، والصواب لا يتوصل إليه إلا بالوقوف على الخطأ.